03 ديسمبر 2012

بين الدستور والمستور- عبد الرازق الشاعر


"في عام 1892، تخلصت تايلند وللأبد من الحكم الملكي الإقطاعي، وبدأ الناس هناك يتنفسون الصعداء، ويتحدثون - بالضبط كما نفعل اليوم - عن بلاد يحكمها القانون ويقوم اعوجاج حكامها دستور حيادي عصي على التعطيل ولا يعرف التأويل. واتفقت الحكومة الجديدة هناك على مسودة الدستور النهائية، وبدأ المروجون لبنوده ينتشرون في طول البلاد وعرضها ليعرضوا خلاصة ما توصل إليه الفقهاء الدستوريون على عامة الشعب. وفي واحدة من تلك الهجمات الدعائية، التقي أحد مستشاري الرئيس بفلاح بسيط، فاستوقفه، وسأله في تواضع جم: "هل تعتقد أن حكم الدستور أفضل من الحكم الملكي يا سيدي؟" قال الرجل، وقد بدت ملامح الجد ترتسم على سحنته المحروقة بلفح الشمس: "أعرف الملك جيدا، لكنني لا أخفي عليك أنني لا أعرف شيئا عن الدستور هذا. ابن من يكون يا ترى؟"
لم يكن فلاح تايلند يساريا ولا ليبراليا، ولم يكن يعرف شيئا عن الاشتراكية ولا الماركسية، لكنه كان مجرد هيكل بائس من مخلفات عصر داست فيه الأقدام الملكية فوق ملامحه حتى سوتها بطين الأرض وروث الماشية. وفجأة وجد الرجل نفسه وجها لوجه مع نبيل من نبلاء عصر الحداثة يسأله عن رأيه المعتبر في عصارة أفهام نوابغ القانون وفقهاء الدستور. لم يرد الرجل البسيط التندر من قامة مستشار الرئيس، ولا من حراسه الشخصيين مفرودي العضلات الذين أحاطوا بفهمه الصغير من كافة الجهات إذن. لكنه لم يستطع أن يفرق يومها بين حاكم ودستور لشدة التشابه بينهما. 
وفي الهند، رأت أنديرا غاندي عام 1975، بعد فوزها الكاسح في الانتخابات الهندية بثلاث سنوات، أن دستور البلاد الذي أوصلها إلى سدة الحكم به عوار، وأن الحكمة تقتضي إلغاءه .. هكذا فجأة!! ومن نافلة القول هنا أن أذكر القارئ الطيب بأن التغيير كان من أجل القضاء على الفساد ومحاربة الفقر والمرض. وهكذا تغيرت البنود المطعون في دستوريتها، لتحل محلها بنود أخرى أكثر دستورية حتى حين. ويومها، قامت مكتبات دلهي وأقاليمها بالترويج للمستبد الوليد الذي سيكون فلاح الهند البسيط شاهد عدل على مواده الكثيرة ليقوّم ما فسد من أفهام واضعيه ويقارعهم الحجة بالبصمة. وفي تلك الآونة الاستغبائية من تاريخ الهند، ذهب زبون ليشتري نسخة من الدستور، 
فأجابه صاحب المكتبة بأنه لا يبيع المجلات الدورية. فما يصلح ربيعٓ يفسد طلحة، ولله في فصوله شؤون. 
وفي مصر عام 1952، قام الضباط الأحرار بانقلاب محمود على الملكية وخلصوا البلاد من مستبد وحاشية فاسدة ، فصفق لهم البسطاء وحولوا شوارعهم إلى حناجر مفغورة تصدح باسم المخلص النبيل. لكن الضباط الأحرار جدا قوبلوا بمعارضة شرسة من قبل أساتذة القانون حين أرادوا أن يعطلوا الدستور، إذ لم يكن القانون حينذاك يسمح للانقلابيين بتعديل الدستور أو تبديله. ويومها قرر الضباط الأحرار تغيير مصطلح "حركة" إلى مصطلح "ثورة" ليعبثوا بالدستور والقانون باسم الثورة وبما لا يخالف شرعة القوانين. ويومها أقسم الثائرون على الاستبداد أنهم سيعودون إلى ثكناتهم فور تسليم الشعب مستحقاته المنهوبة، وهو ما استغرق نحو ستة عقود عجاف. وحين أراد الشعب الطيب أن يمتلك ناصيته بعد تحرر آخر من ديكتاتورية أخرى، وجد نفسه وجها لوجه مع دستور جديد سيسعى حتما لإعادة الحقوق إليه باعتباره صاحب الأرض والتاريخ، لكن أصحاب المشروع الجديد أو سدنة الدستور الجديد لم يحددوا موعدا للعودة إلى ثكناتهم بعد.
يتوزع المشهد إذن فوق القارات وتتناثر ملامحه فوق الأزمنة، لكن أحدا لا يتعلم لأن أحدا لا يقرأ، ولأن الواقفين على حدود التاريخ الفاصلة يجدون دوما من يشرعن رغبتهم السادية في القفز على أكتاف الفقراء المطحونين إلى جهات لا يعلم مآلاتها إلا الله والراسخون في العلم. يقف الناس اليوم أمام الصناديق هنا كما وقف الفلاح التايلندي أمام مستشار الرئيس هناك بنفس الملامح المحروقة والوجوه المعروقة ليستفسر في غباء غير مصطنع عن نسب الدستور قبل أن يضع بصمته فوق نسخة ستعيد إليه كرامته المسلوبة وحقوقه المشروعة من أيدي لصوص التاريخ. 
فليهنأ البسطاء في بلادنا بهذه المليونيات المتتابعة، لأن حشودها المختلفة جدا لم تخرج من بيوتها إلا طلبا لراحته وعملا على إسعاده. أبشروا أيها البسطاء بثورة جديدة على المفسدين ودستور جديد سيضع بصمات أصابعكم شئتم أم أبيتم على خرائط أسلابكم ليعيدكم في قفزة نوعية إلى رأس بلاد أن عشتم تحت حذائها الملكي دهرا بقرار دستوري هللتم له أيما تهليل. فقط عليكم أن تراجعوا بنود الفقهاء الدستوريين جيدا، فقد وهبكم الله عقولا تحكم بالعدل في بلاد يحكمها القانون، وأدعوا الله مخلصا أن يهبكم الحكمة لتميزوا بين الدستور والمستور.
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com

ليست هناك تعليقات: