29 نوفمبر 2012

مجتمع الكراهية - عبد الرازق أحمد الشاعر


إبان الحرب الأهلية، طرق زائر باب البيت الأبيض، والتقى أبراهام لنكولن الذي لم يكن مستعدا البتة لزيارات من هذا النوع، لكنها الدبلوماسية كما تعرفون. ودار بين الرجلين حوار ممل من طرف واحد، قاطعته سعلات مفتعلة من طرف المضيف، حتى ظن الضيف صمت الحليم جهالة، فصار يرغي ويزبد، فيتحدث تارة عن مبادئه وأخرى عن رؤاه حتى بلغ به السخف منتهاه، فانتقل من السياسة إلى الفلسفة، مستشهدا بقول من هنا أوحكمة من هناك. وظل لنكولن قابضا على كرسيه في هدوء مصطنع حتى وضع الرجل قشته التي قصمت ظهر الحوار. قال الرجل: "لكنني واثق يا سيدي أن الله معنا." عندها انتفض لنكولن كمن أُهرق فوق بنطاله كوب من المرق الساخن ليعلن تحطم مائدة الحوار الذي لم يسمن ولم يغن من جهالة ليقول: "المهم أن نثق أننا مع الله."
المدهش أن جميع الفرقاء في حربنا الأهلية غير المقدسة يظنون أن الله معهم، وأن الله ناصرهم، وأنهم على الحق المبين، وأن الفئة الباغية تقف دوما في الاتجاه المقابل. الكل يشحذ أسلحة الكراهية ويسن شفرات الضغينة، ويحارب السلام والمحبة ويهاجم ويسب ويلعن باسم الرب لأننا جميعا واثقون أن الله معنا ولن يترنا أعمالنا.
كلنا نتحدث عن التفاهم والتقارب والتعايش في مستهل حواراتنا، ونتبادل البسمات المغروزة في وجناتنا كخناجر بروتوسية حتى حين، لكن ذلك الحين لا يقف بين شفاهنا طويلا، إذ سرعان ما تفتح فوهات حناجرنا المقدسة لتطلق قذائف التخوين والتمويل والعمالة في وجه الآخر، فتنقلب دائرة الحوار باسم الرب الإله الذي لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على رؤوس المتحاورين.
وفي سبيل نصرة الرب - الذي لا نراه ينتصر إلا بالكراهية - مستعدون نحن لسحل الآخر وسمله، لأنه لا يستحق هبة الحياة التي منحها إياه الرب الإله قبل أن يندم. وحين نقف فوق جثة هابيل، نفرج بين السبابة والوسطى في زهو مريع لأننا قتلنا عدو الله الذي يعيث في الأرض فسادا، فلولا دفع الله هؤلاء بنا لفسدت الأرض. 
كلنا ندعي وصلا بالقيم والمبادئ والحريات، وكلنا طاعنون في الكراهية والعنف والاستبداد. لم يعد ثمة فارق جوهري بين من يقفون في أقصى اليمين ومن يأتون من أقصى اليسار بعد أن ساوت الكراهية بينهم. فهذا يكره أخاه باعتباره مبعوث العناية الإلهية لتطهير المجتمع من أدران الجاهلية، والآخر سفير القيم النبيلة الذي أرسلته العناية الإلهية للقضاء على التخلف والرجعية والاتجار باسم الدين. الكل يتاجر باسم الحرية والعدالة في معركة تدور رحاها بين أنبياء معصومين وملائكة مطهرين.
ذات يوم قامت الحرب الأهلية في أمريكا بين فريقين يظن أحدهما أنه لا سبيل إلى تحقيق العدالة الإلهية والحرية والكرامة الإنسانية إلا بحمل الظالمين عليها حملا على يد قيادة قوية ملهمة، وظن الآخر أن الضمانة الوحيدة لتحقيق التقدم تتمثل في الحراك الشعبي الذي يحمل الحاكم على تنفيذ مشيئة الرب العادل في الملكوت. ويومها استمرأ الفريقان القتل والسحل وقطع الرقاب. ويومها قال توماس كارلايل في أسى: "الفرق بين هذا الفريق وذاك، أن أحدهما يفضل شراء الخادم بينما يحبذ الآخر أن يؤجره بالساعة." 
قد يختلف هؤلاء عن أولئك في لون الشعارات وصياغة الهتافات، لكن أعاليلهم لا تخفي قبح الأباطيل التي تنم عن رغبتهم الدفينة في الاستحواذ على أكبر عدد من عقول البسطاء الذين يرددون الهتافات بحناجر مشبوبة آملين في تحرر حقيقي من عبودية الآخر دون يأس. حتما سينبلج الفجر عن ليل كاذب وستلد الحناجر المتقيحة صديدا ودما ذات انفجار، لأنها لا تحمل الرب الخير الرحيم في حلوقها، بل تحمل بذور كراهية وسما زعافا ورغبة انتقامية من الآخر - أي آخر على رصيف وطن آيل للسقوط.
لا تستمعوا لمثيري الكراهية أيها الطيبون، لأنهم ليسوا سوى حفنة من الأفاقين الذين يريدون أن يسطوا على عقولكم بشعاراتهم المزيفة قبل أن يرثوا حظوظكم وآمالكم في هذا العالم. لا يملك رسل الكراهية كتبا مقدسة ولا ألواح ولا مزامير، لأن الصدور التي تغلي مراجلها بالكراهية لا تعرف الإله المحب، فكيف بالله تدعو له. راجعوا قلوبكم قبل أن تتدفقوا على الميادين أيها الطيبون، فهناك من يغرر بكم ليستأجر أعماركم نقدا أو بالتقسيط باسم القيم.

أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com

هناك تعليق واحد:

نصر الدين دلاوي يقول...

تحية طيبة و سلاما
المؤمّل أن تَلقى الكراهية حتفها في مصر و في مكان في العالم و أن يستردّ ضحاياها وَعيهم و أن يستعيدوا إنسانيّتهم المسلوبة و يَثوبوا إلى رشدهم الحصين.
شكرًا لك على هذه الكلمات المضيئة