14 أكتوبر 2012

صراع على ظل حمار - بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر




كان ديموثينيز خطيبا مفوها يجيد طحن الكلمات وعجن العبارات حتى افتتن الأثينيون بعذوبة لفظة وجزالة حرفه. إلا أن آراء الرجل السياسية لم تكن تطيب للكثيرين من المنتمين إلى أحزاب عصره، فكانوا يتتبعونه بغية النيل منه وتسفيه رأيه. وفي إحدى خطبه، لاحظ الرجل وجود حشد كبير من المنتمين إلى التيارات السياسية المتصارعة، فنحى ورقة السياسة جانبا وجلس على كرسيه القرفصاء وأعلن أنه لن يخوض في حديث السياسة حتى لا يستميل أحدا أو يغضب أحدا، وأنه سيروى لهم قصة ستنال إعجاب الجميع. عندها اجتمعت العيون على زوايا فمه وملتقى شفتيه حتى لا يفوتهم حرفا مما يقول.
حكى الحكيم ديموثينيز قصة شاب أراد أن يستقل دابة لتحمله إلى قرية ميجارا، فذهب إلى أقرب مزارع، وأنقده أجرة الذهاب والإياب على متن حماره الوحيد، فاشترط صاحب الحمار على المستأجر أن يحمله معه. ولما لم يكن في الجوار غير حمار العجوز، وافق الشاب ممتعضا. ووسط نهار شديد لفحه، أوقف الرجلان مكابح الحمار لينالا قسطا من فيئه. لكن الحمار الهزيل جدا أبى أن يفرش ظلاله فوق رأسين، وعندها احتدم الشجار على ظل الحمار.
رأى الشاب أنه قد دفع ثمن الإقلاع والهبوط، وبالتالي لا حق للعجوز في ظلال حماره المؤجرة. أما العجوز فقد أصر أنه أجر الحمار ولم يؤجر ظله، وبالتالي لا حق للشاب في الانتفاع بما جاوز الظهر والسيقان. ثم توقف ديموثينيز عن القص فجأة وحدق في العيون التي تلاحق شفتيه. ظل الرجل يتفرس في ملامح السياسيين الذين اجتمعوا حول قصته كجرذان مستأنسة زاما شفتيه دون أن ينبس ببنت شفة. وعندها، تعالت صيحات الاستهجان مطالبة الرجل بمواصلة حديثه الشيق جدا. طالبه المحتشدون جميعا على اختلاف مشاربهم السياسية وعقائدهم الفكرية أن يكمل قصة الظل والهجير.
عندها انفجر الرجل ضاحكا من علية قومه الذين فرقتهم القصص المسلية والحكايات المفبركة عن واقعهم المزري. سخر الرجل من عصابات سياسية لا تجيد إلا تدبيج الخطب ورص الكلمات وإلهاب العواطف بالخطب الثورية المنمقة التي لا تبني وطنا ولا حتى زريبة ماشية. ضحك الرجل وتخضلت عيناه الواسعتان بدموع ملتهبة سالت على لحيته الكثة وهو يرى ما تفعل القصص المفبركة والحكايات الصغيرة بأفهام أناس جعلتهم الكاميرات الموجهة ملء السمع والبصر.
اهتز جسد الرجل الممتلئ وترجرج كرشه الضخم فوق ركبتيه ضحكا من أناس أسلموا رؤوسهم للغواية وباعوا رؤوسهم للشيطان فاجتمعوا حول ظل حمار وتفرقوا فوق تراب وطن جمعهم ذات ميدان ووحد أنفاسهم وصهيلهم المقدس نحو الحرية ذات وعي. قال ديموثينيز لرؤوس أحزاب تركت العمل من أجل حياة شريفة تليق بالأثينيين، وتفرغوا لاجتماعاتهم المغلقة تحت ظل حمار: "كيف بالله تجتمعون عند حوافر حمار ولا تلتقون عند قلب الوطن." عندها، شعر الأثينيون أن الرجل لم يترك السياسة ولم يغادر حياضها، وأنهم هم الذين غادروا هموم الوطن وتفرغوا للنزاع حتى آخر شهقة على حقوقهم المغتصبة في فيء حمار.
انصرف الأثينيون باكين من أمام منصة لم يتطاول على خشباتها أحد إلى بيوتهم الفقيرة جدا محملين بهموم أخرى غير التي أتوا إلى الميدان بها. عاد الأثينيون من نزاعاتهم غير المقدسة إلى هموم الوطن الكبرى ليتعاونوا معا لبناء وطن لم يترك محتلوه لشعبه ما يطمعون به غير ظل حمار في طريق طويل شديد لفحه قليل فيؤه.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@hotmail.com

ليست هناك تعليقات: