08 يوليو 2012

هل صحيح أن "العسكر" يحكمون مصر لمدة ستين عاما؟ -محمد عبد الحكم دياب



محمد عبد الحكم دياب

مع سيطرة اليمين المذهبي والطائفي ولا أقول الديني، والليبرالي الانعزالي ولا أقول التحرري حسب معناه في الأصل الانكليزي، وكذلك اليمين البوليسي ولا أٍقول العسكري؛ منذ سيطرة هؤلاء على شؤون الثورة والحكم في مصر شاع قول بأن رئاسة محمد مرسي تنهي "حكم العسكر" الذي دام ستين عاما، حسب الزعم الشائع، وأتوقع تحالف هذا الثالوث لتصفية الحساب مع الثورات التي مرت بمصر على مدى القرنين الأخيرين واقتلاع جذورها، ولن تكون ثورة 25 يناير استثناء.

وفي مناخ يعمل على عودة الثورة المضادة بثياب "الثورات الملونة"، التي نسجتها الأجهزة السرية في معاملها وغرفها السوداء، وأعطت إشارة البدء لعملاء شرق ووسط أوروبا؛ على أمل إنتشارها في باقي أنحاء العالم. ولم يعرف عن هذا الثلاثي منفردا أو مجتمعا أن أيد ثورة في يوم ما، والخوف على ثورة يناير المجيدة من كيده، واستمرار محاولاته التي لا تتوقف لصبغها بتلك الصبغة المضادة.

وقد تعثرت محاولات فك ارتباط ثورة 25 يناير بالثورة المضادة، وهو ارتباط قائم حتى الآن، وأبقى على آليات وهياكل منظومة الاستبداد والفساد والتبعية على حالها، ولم يجرؤ مسؤول مدني أو عسكري طوال المرحلة الانتقالية على المساس بمصالح المنتمين لهذه المنظومة، ولم يستطع أي منهم التصدي للخلايا التي استيقظت لتعيث في الأرض فسادا إلى أن صارت شريكا في تحديد مسارها وضبطه وكلها من المدنيين والبلطجية وجهاز أمن الدولة المنحل ورجال الأعمال.

ماذا يعني استمرار الحكم العسكري لستين عاما؟ وإذا ما كان الأمر كذلك فما الذي حال بينه وبين أن تكون مهمته الأساسية القتال وتجييش المواطنين وتدريبهم وإعدادهم للدفاع عن بلدهم وأنفسهم وحدودهم؟، ولماذا لم توظف اقتصاديات المجتمع وإمكانياته وثقافته لذلك الغرض؟ وإذا كان هناك بعض من هذا حتى حرب 1973، فهل هذا قائم الآن؟

ولتوضيح المقصود؛ لنتناول مثلين؛ أحدهما تاريخي والآخر معاصر. أما التاريخي هو مجتمع اسبرطة، وكان جزءا من منظومة المدن اليونانية القديمة، ووجود "دولة المدينة"، نتيجة تقسيم البلاد إلى مدن تجارية كبرى؛ أقامت علاقاتها ونظمها الداخلية والخارجية على قواعد الدولة المستقلة، لكنها كانت أقرب إلى الإمارة الصغيرة.

والمثل الثاني معاصر، وهو المجتمع العسكري الصهيوني، ويتشبه بالمجتمع الاسبرطي مع اختلاف الزمان والمكان، وبفارق واضح في أن أهل اسبرطة أصحاب بلد ومواطنون، أما اليهود فهم مستوطنون مهاجرون؛ يرعاهم من أتى بهم وهيأ لهم الأرض باقتلاع السكان العرب منها.

وتعد اسبرطة النموذج المباشر للمجتمع العسكري، الذي بُني وتشكل على العسكرة والجندية الكاملة لمواطنيه الذكور، وكانت محور ما عداها من أعمال وأنشطة، ولم تعترف اسبرطة إلا بالقوة، وتميز مواطنها بلياقته البدنية ومهاراته القتالية وقدراته العسكرية، ويذكر الباحث محمد علي البدري في دراسة له نشرت في تموز/يوليو 2011 أن اسبرطة اعتمدت على أبنائها الأقوياء منذ الطفولة "فلم يكن هناك مكان للضعفاء أو ذوي الاحتياجات الخاصة"، والمولود الضعيف يتعرض للوأد من ذويه، مفسحا المجال للأصحاء لإلحاقهم بالمدارس العسكرية، وتلاميذها كانوا يعزلون عن المجتمع لسنوات حتى يكتمل تدريبهم وتأهيلهم للقتال. وكان النظام السياسي والقانوني لاسبرطة في خدمة العسكرة. وخضع لملوك منتخبين من السادة، الذين ينتخبون بدورهم من يتولون الرقابة والتشريع، وبقي المجتمع الإسبرطي صامدا حتى ضعف عسكريا وتلاشت دولته ونظامه السياسي.

ولبى النظام الاقتصادي الاسبرطي استحقاقات العسكرة واحتياجات الجندية، بما فيها النقاء العرقي، وما عرف تاريخيا بـ"السمو الذاتي" فلم يكن الاختلاط ولا امتزاج دماء السكان مسموحا به، مع ما حمل من عنصرية وتمييز بين الطبقات الرئيسية الثلاث؛ طبقة السادة من المواطنين الأحرار، والصناع والتجار والحرفيين، الذين يتمتعون بنصف مواطنة، والعبيد ولا يتمتعون بحقوق تذكر، ويعملون بالسخرة لفلاحة الأرض والأعمال الدونية. أما السادة فلهم الجندية والحكم والأعمال الرفيعة.

وتراث اسبرطة الثقافي والفكري لا يكاد يذكر؛ مقارنة بتفوقها العسكري. وكان ذلك على العكس من أثينا بإنتاجها الفلسفي والفكري والعلمي الغزير، وهي التي أختارها الغرب أساسا لحضارته المعاصرة، مع إنكاره لتأثيرات الحضارات المصرية والبابلية والفينيقية والعربية والفارسية والصينية.

أما النموذج الصهيوني فقام على الجمع بين العسكرة والتمييز العنصري، وهي حالة معيارية وقياسية، حيث أنّها الوحيدة الباقية القائمة على عاملين أساسيين هما الدور والبنية. فالدور هو دور الشرطي والبلطجي المسلّح، والبنية لمجتمع هو في حقيقته ثكنة عسكرية كبيرة كل من يعيش فيها مقاتل تحت الطلب، ولها شكل الدولة، التي أنشئت لخدمة الدور والبنية المذكورين. وتتخفى وراء واجهة "ديمقراطية" وخطاب عدواني عن "الأمن المهدّد" بشكل دائم؛ تبريرا لايديولوجية العسكرة وتنظيم السكان المدربين والمسلحين في وحدات قتالية في جيشها العامل أو الاحتياطي. ويتداول الحكم في هذه الثكنة (الدولة) جنرالات ومجرمو حرب وجواسيس ومخربين، ومن يصبح قاتلا يمسي زعيما لحزب سياسي أو رئيسا لجماعة مدنية أو أكاديميا في جامعة.

ومن مهام المجتمع العسكري الصهيوني العدوان الدائم على الوطن العربي وتمزيقه، وفصل مَشْرِقه عن مغربـه، وتحويله إلى فسيفساء ودويلات وكانتونات يمكن إخضاعها، وتمكين الآلة العسكرية الصهيونية من العمل بسرعة على جبهات الشمال والشرق والجنوب، وتوجيه ضربات "وقائية" ضدها. ووضع المجتمع العسكري الصهيوني خططه المحكمة للعدوان المستمر باسم الدفاع عن النفس؛ بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير.

ويلعب الاقتصاد دورا مهما في تعزيز العسكرة، فيوفر التمويل اللازم لإبقائها مجتمعا للمهاجرين والمستوطنين، وتسليحه وتدريبه وإعالته. واعتماد العون الخارجي؛ بالمال والمهاجرين بتخصصاتهم المتنوعة، واستثمارهم في الصناعات الدقيقة والمتقدمة، والصناعات الصاروخية والجوية والإلكترونية والبتروكيماوية (وكان للعالم المصري أحمد زويل دور بالغ الأهمية في تطوير الصواريخ الصهيونية)!. والعسكرة هدف أول وأخير للاقتصاد الصهيوني.

تضافرت مختلف العوامل الاقتصادية للحفاظ عليه، فحلت مشكلة ضيق المساحة الزراعية بالتوسع والاستيطان، وشح المياه بالاستيلاء على مياه اليرموك والليطاني والأردن، ونفس الشيء حدث مع المواد الخام والأولية؛ تحصلت عليها من الأراضي العربية المتاخمة. وقد انعكست تلك العوامل الاقتصادية، على ما يسمى بنظرية "الأمن الإسرائيلي"، وعن طريقها ضمنت التدفق المالي المستمر من الخارج، وغطت نفقات العسكرة والحروب الدورية بالمعونات والتعويضات والتبرعات والتجارة الخارجية. وحققت الحد الأقصى من المخزون الإستراتيجي، في المواد والاحتياجات الرئيسية. وضغطت فترة التعبئة العامة إلى أقل مدة ممكنة، أو نظمتها على مراحل متتالية، واعتبرت الحرب الخاطفة ضرورة اقتصادية، تحتم بدء الحرب وإنهاؤها في أقصر مدة ممكنة. وتوفير الحماية الكاملة لمراكز الإنتاج الاقتصادية الحيوية، وكفالة استمرار سير العمل فيها بأقصى طاقة، أثناء الطوارئ والحروب، ونقل الحرب بعيداً عما يعرف بـ"أرض إسرائيل". واستغلال واستثمار الموارد المستولى عليها في الأراضي العربية المحتلة، لسد النقص الذي يعانيه الاقتصاد منها، وتغطية نفقات الاحتلال باستنزاف هذه الموارد إلى أقصى درجة ممكنة. (النفط المصري من خليج السويس، وموارد المياه العربية، عقب حرب يونيو 1967).

وترتبط عقيدة العسكرة بالسياسة الخارجية، وعنها يقول شيمون بيريز أن الدولة الصهيونية في حاجة إلى علاقات خارجية، لتبني قوتها العسكرية لتوفر الأمن لنفسها، كما أن الأمن يمكنه أن يسهم في العلاقات الخارجية كذلك.

ويعتقد دافيد بن غوريون أن العسكرة والسياسة الخارجية، وجهان لعملة واحدة، وفي غياب أحدهما لا يكتمل الآخر، إذ يقول: "يعتمد دفاع إسرائيل (بمعنى العسكرة المستمرة) على رفعة شأننا وعلو كعبنا في الحلبة الدولية. إن الشؤون العسكرية والخارجية أمران متشابكان، لا يمكن لأيهما أن يكون العامل الحاسم بمفرده في البلاد، وذلك لسبب مهم هو أن استطاعتنا، أو عدم استطاعتنا، الحصول على الأسلحة الثقيلة المناسبة لتجهيز جيشنا، يعتمد على علاقاتنا الدولية، وهي دون روابط صداقة سياسية، تصبح الأداة الرئيسية للدفاع عن دولتنا الصغيرة، أي - جيشنا - أداة ضعيفة".

هذان نموذجان واضحان للدولة والحكم العسكري، وحين ننتقل إلى مصر نسأل؛ هل هي دولة عسكرية على شاكلة أي من النموذجين؛ الاسبرطي القديم؟ أم الثكنة العسكرية على الطراز الصهيوني الحديث؟

والفترة المدموغة بالعسكرة هي من 1952 وحتى الآن، ومرت بجمهوريتين؛ أحداهما ثورية مستقلة وفاعلة. عبرت عن تطلعات المظلومين والمحرومين والمنتجين والمبدعين، ليس في مصر وحدها إنما على اتساع الوطن العربي وإفريقيا والعالم الإسلامى وآسيا وأمريكا اللاتينية، وإن قادها عسكريون إلا أنهم كانوا ثوارا قادهم زعيم كان ملء السمع والبصر، والثانية جمهورية فاشية أسسها وأدارها مقامر؛ سلم مصر، وتنازل عن أوراقها لصالح الأمريكان وأعطاهم 99% منها، واستمر بها من جعل من نفسه كنزا استراتيجيا لعدو شعبه وأمته، وترك اللصوص والسماسرة ووكلاء الاحتكارات الأجنبية وأنصار التطبيع ينهبونها ويذلون شعبها، فباعوا كل شيء وتركوها تستجدي العون والغوث.

والناس تترقب ظهور جمهورية جديدة.. فهل يستمر مرسي بالجمهورية الثانية بحكم دوائر المصالح والرؤى المحيطة به؟، أم ينتصر لنفسه ولجذوره البسيطة وما تربى عليه، ويؤسس لجمهورية ثالثة تحرر المواطن من الفقر والاستغلال وتُخلص الوطن من التبعية والصهينة؟ وتمد بصرها عبر حدودها فلعلها تتحسب للمخاطر المتربصة بها من كل جانب.

ولا يهم رداء الثائر.. هل هو كاكي أم جلباب أو ملابس حديثة؟ وكذلك لا يختلف الرجعي والمُطبع إذا ما ارتدى قبعة أو عمامة أو سروالا. فالشكل والمهنة لا يغيران من طبيعة الإنسان، والإنسان بما يحمل من مبادئ، وبما يتخذ من مواقف، وما يختار من حلفاء وأقران.

واللجوء للحلول الأمنية والإجراءات الاستثنائية عمل بوليسي حتى لو حمل من يمارسه كل نياشين الكون العسكرية على صدره، أو حمل غيره الكعبة على كتفه، فالثائر الحق يهب حياته للثورة، وهو أول من يضحي وآخر من يستفيد، وليس المهم شكله ولا ملبسه أو مهنته.
ومصر ليست مجتمعا عسكريا وإن حاربت المحتل، وما زال التعامل الأمني (البوليسي) هو الأصعب، والانتماء للمؤسسة العسكرية أساسه رغبة وتطوع، وتجنيد إجباري، وذلك لا يعني تجييش المجتمع أو عسكرته، وقوانين الطوارئ والقيود التي وضعت على المواطنين فرضتها منظومة كاملة للاستبداد والفساد والتبعية، بكل ما فيها من تنوع مدني وعسكري وشرطي، والخراب إذا ما عم لا يجب التعامل معه بانتقائية، ولا بمنطق تصفية الحسابات، وإذا كانت الجمهورية الأولى ثورية مستقلة، فإن الجمهورية الثانية كانت ساداتية مؤمركة ومباركية مصهينة، وبين الجمهوريتين بون شاسع.

ليست هناك تعليقات: