16 يونيو 2012

كل شيء من السوق إلا الضمير والوجدان من فوق



القس لوسيان جميل
المقدمة: اعزائي القراء! العنوان الذي كنت قد وضعته لهذا المقال كان: رواية واقعية قصيرة جدا، وقد كانت هذه الرواية القصيرة جدا، تحكي لنا ان رهبانا كانوا مسافرين بالقطار من باريس الى مدينة اخرى خارج فرنسا. في الطريق توقف القطار في احدى المحطات لمدة طويلة. لذلك سمح رئيس الرهبان لرهبانه بأن يذهبوا الى المدينة التي تعود اليها تلك المحطة لقضاء بعض الوقت فيها، ويعودوا اليها ثانية في وقت كان قد حدده لهم الرئيس، قبل ان ينطلق بهم القطار ثانية الى المكان المقصود. غير ان احد الرهبان، تخلف عن الموعد المحدد بدقيقتين. فما ان وصل الراهب المذكور الى المحطة حتى تناوله الرئيس توبيخا ووعظا عن الدقة وعن احترام الزمن وعن الطاعة للرؤساء. ثم اخذ الرئيس الراهب المخالف معه حيث كان الرهبان الآخرون، وأخذ يقول لهم: اترون هذا الراهب: لقد تأخر عن الموعد المحدد دقيقتين. ومن شدة غضبه واستنكاره لما جرى، كان الرئيس بين الحين والآخر يكرر هذه العبارة بغضب على مسامع الجميع: اترون هذا الراهب، لقد تأخر عن الموعد بدقيقتين.

العنوان الجديد لا يلغي العنوان القديم: غير ان العنوان الجديد لا يلغي العنوان القديم، لكن العنوانين يساهمان معا في كشف وحشية ولا انسانية المحتلين وفي الاشارة المستمرة الى المحتلين والى الذين تعاونوا معهم. فالعنوان الجديد: كل شيء من السوق إلا الضمير والوجدان من فوق، يريد ان يظهر لشعبنا وللشعوب العربية ولشعوب العالم، ان ما فعله بنا المحتلون من قتل وتدمير بوحشية منقطعة النظير، قد وصل الى الحد الذي لا يمكن ان يقبله ضمير انساني سليم ووجدان غير مشوه بسياسة اقوياء العالم التي اخذت منذ فترة تعتمد شريعة الغاب في تعاملها مع الشعوب الضعيفة. ولهذا وضعنا هذا العنوان في مقدمة المقال، في حين وضعنا العنوان الثاني في متن المقال، لكي يشير هذا العنوان الثاني بإصبعه الى قتلة شعبنا ومدمري دولتنا، لا بل يشير الى قتلة ابناء سائر الدول الضعيفة مثل ليبيا واليمن وسوريا قائلا: اترون هؤلاء المحتلين ماذا فعلوا ببلادنا، وماذا فعل انصارهم والمتعاونون معهم ببلادهم؟! ويقينا سوف يجد العالم ان ما فعله الراهب الذي تأخر عن الموعد بدقيقتين شيء كاريكاتوري مضحك، ازاء ما فعله المحتلون الأشرار ببلداننا، وفي مقدمتها العراق، بحيث يصير اي عذر وتصير اية حجة وأية مظلمة وأي سبب قدمه ويقدمه المعتدون المحتلون لتبرير عدوانهم شيئا تافها، لا يمكننا عده سوى كذبة لا تغتفر لتبرير العدوان. وهنا ارجو ان يسمع السيد اوباما ويفهم بأن الكذب الذي تنطق به وزيرة خارجيته، مهددة الدول الضعيفة بالتدمير، لا يبرئ ساحته، حتى ولو لم يكن ينطق به هو نفسه، طالما لا يوجد فرق بين الرئيس وبين وزيرة خارجيته، لأن السيد اوباما هو في امريكا وليس في العراق، بحث يصرح اي مسئول، كما يحلو له، دون ان تكون له علاقة بالآخرين، بسبب الفوضى الخلاقة التي خلقها عندنا المحل.

لماذا صار التقديم والتأخير بين العناوين: الحقيقة ان هذا التقديم والتأخير بين العناوين جاء بسبب ما جرى في العراق، يوم الاربعاء 13- 6- 2012 من تفجيرات ودماء، هذه الدماء التي، وكعادة المجرمين، اخذوا ينسبونها الى هذه الجهة او تلك، والى هذا السبب او الى آخر، بينما يجب ان تنسب كل الدماء التي سفكت في العراق، وفي الدول العربية الأخرى المعتدى عليها، الى سببها الحقيقي الأول، ألا وهو المحتل وأعوانه، فضلا عن المنافقين والفريسيين في الأمم المتحدة وفي سائر المنظمات الدولية الخاضعة للنفوذ الأمريكي الجائر والتي تعمل بموجب توجهات الأمريكان الشريرة، حين تجد لهم السبل والمبررات لتكوين جسر وموقع قدم في البلدان المراد احتلالها وضربها، كما حدث في الحربين الأمريكيتين على العراق عام 1991 وعام 2003. وكما حصل ذلك في ليبيا واليمن، وكما يحصل الآن في سوريا، وكما حصل في حالات عديدة اخرى لم تصل الى حرب، ولكن وصلت الى فصل كيانات من دولها تحت الضغط والإرهاب الاعلامي الأمريكي المصحوب بالتهديد بالحرب. ومع الأسف حصل كل هذا العدوان على الشعوب باسم الديمقراطية وحقوق الانسان، هذه الديمقراطية التي كان يجب ان تمارسها دول اقوياء العالم قبل ان تفرضها بقوة السلاح على الدول الضعيفة.
وفي الواقع، قد لا نعرف من يقوم بالتفجيرات في العراق، ومن قام بقتل الناس يوم الاربعاء المذكور، وكذلك في الأيام الأخرى التي بلغت آلاف الحالات الدموية، غير اننا لن نخطئ اذا وجهنا اصبع الاتهام الى المحتل مباشرة بشخص السيد اوباما، والى طاقمه السياسي والعسكري، الذي يبدو عليهم جميعا انهم لا يملكون ذمة ووجدانا ولا ضميرا سليما، بدلالة ما قاموا ويقومون به من عبث بأرواح الناس وممتلكات الدولة وخيراتها. كما اننا لن نخطئ اذا وجهنا اصبع الاتهام الى طواقم العملية السياسية العدوانية، ليس فقط لأنهم فشلوا فشلا ذريعا في تثبيت دعائم حكمهم الفاسد وغير المشروع، منذ تسع سنوات والى حد هذا اليوم، الأمر الذي ضاعف من عدد الضحايا الابرياء، ولكن ايضا، لأنهم ظهروا اناسا لا يهمهم قتل نصف العراقيين من اجل حصولهم على مبتغاهم، اي يقتلون الخروف من اجل جلده فقط. ولهذا وضعنا عنواننا هذا: كل شيء من السوق، إلا الضمير والوجدان من فوق، ولهذا ايضا، وبعد ان نفضح وحشية وخسة المحتلين، نبدأ في الخطوة التالية، برفع اصبع الاتهام نحو هؤلاء جميعا، ونقول لشعبنا ولشعوب العالم، كما قال ذلك الرئيس للراهب الذي تأخر عن الموعد دقيقتين: اترون هؤلاء المتوحشين اعداء الانسانية: لقد دمروا العراق وقتلوا اهله! لقد دمروا العراق وقتلوا اهله! لكننا لن نقولها مرة او مرتين، بل نقولها كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة، ولا نهدأ حتى نستعيد حق العراق وحق اهله من اشباه البشر هؤلاء، لكي نترك الباقي للشرفاء من اهل الاختصاص، كل باختصاصه.

عنوان مُحَور: وفي الحقيقة ان ما عملته هو اني وضعت عنوانا محورا لعنوان مشابه يقول: كل شيء من السوق المحبة من فوق. ولكن بما ان المحبة كلمة شمولية فإنها تحوي العدل ايضا، كما تحوي الضمير والذمة والوجدان، وغير ذلك من الفضائل الفرعية. وبهذا المعنى كان القديس اوغسطينوس قد قال: احبب وافعل ما تشاء، لأنه كان يعرف ان من يحب لا يستطيع ان يعمل كل ما يشاء، وانما يعمل جهده ليعمل بحسب متطلبات الحب. علما بأن حب الله وحب البشر، بعدان لحب واحد، لا ينفصلان عن بعضهما ابدا. فمن يحب الله لا يستطيع ان يعتدي على اخيه الانسان، حتى وان بكلمة بسيطة، مثل كلمة يا احمق. (من الانجيل). وهنا نسمع يوحنا الرسول في احدى رسائله يوجه كلاما الى محاوره بالقول ما معناه: كيف يمكنك يا هذا ان تقول (تدعي) انك تحب الله الذي لا تراه وتبغض اخاك الذي تراه. فماذا يقول القتلة والمنافقون بهذا الكلام؟ ماذا يقول السيد بوش المدان من محكمة كوالالامبور، وماذا يقول السيد اوباما الذي يبدو لمن بدأ يعرفه، بأنه لا يملك قلبا يشعر بألم الآخرين. وماذا تقول السيدة كلينتون عرابة الشر والمحرضة عليه، عندما تحرض على قتل البشر الذين لا يخضعون لسيادتها، مع ان قتل البشر، من دون سبب حقيقي يتنافي مع التعاليم الانجيلية والإنسانية السليمة. مع انه يفترض بهذه المرأة ان تعرف وصايا المسيح وتؤمن بإنجيله. او اقله تؤمن بالقيم الانسانية النبيلة التي داستها بأقدامها في كل مكان. ام ان للسياسيين ربين وإنجيلين، وقرآنيين، وشريعتين انسانيتين: الواحدة للأقوياء القتلة والأخرى لعالم الضعفاء. ولكن نقول للسيدة كلينتون التي تملك القوة المادية وتسمح لنفسها بأن تكيل بمكيالين، ان الله لا ينظر الى الوجوه ولا يكيل بمكيالين يا سيدة كلينتون، ويا سيد اوباما. لذلك لا يمكن ان يسكن الله في قلوب مثل هؤلاء السياسيين.

استعراض للحالة العراقية: والآن اذا استعرضنا ما جرى للعراق خلال تسعة اعوام، وما حدث يوم الاربعاء الماضي في كثير من المدن العراقية، يفهم منه ان اشباه البشر هؤلاء المتمسكين بغنيمتهم بإصرار جرمي، لا يحبون الله ولا الانسان، لكنهم، بالعكس من ذلك، يظهرون للعراقيين ولغير العراقيين، عبارة عن اشباه بشر مدججين بالسلاح، وأعداء لله والإنسان، بعكس تبجحهم الكاذب بحقوق الانسان. فشريعة هؤلاء هي قوتهم الارهابية القاتلة والمخربة لدول العالم، وعدلهم هو ان تخضع لهم شعوب العالم الضعيفة. اما ذمتهم ووجدانهم فلشدة نتانتها يحاولون ان يخفوها عن اعين الناس، ولكن هل تكفي الأكاذيب لإخفاء هذه النتانة: اسألوا محكمة لاهور وهي تعطيكم الخبر اليقين.

ما كل ما يتمنى المرء يناله: وفي الواقع، قد يتمنى هؤلاء الناس المحتلون ان يفصلوا بين اعمالهم السياسية وبين اعمالهم الاجتماعية الأخرى، غير ان الحقيقة تقول ان الإناء بما فيه ينضح. فمن كان ما في انائه فاسدا فانه سينضح فسادا على كل المستويات الاجتماعية العادية والسياسية، وحتى على المستوى العائلي. كما حدث مع السيد كلينتون وعائلته، عندما كان رئيسا لأمريكا. وكما حدث للسيد ساركوزي وغيره من رؤساء الأحزاب والسياسيين، والذين سقطوا بعيون الناس، ليس فقط بسبب سياستهم المكروهة، بل بسبب اخلاقهم العامة والعائلية ايضا. وقد يحسب كثير من اقوياء العالم ان القوة التي يملكونها تحميهم من عدل الله الذي يعمل عمله الخير وسط العالم، من خلال القوانين التي وضعها في هذا العالم، غير ان كثيرا من وقائع العالم تثبت عكس ذلك. فنعم هناك حاشية للشر وللاستبداد في قوانين العالم، وهناك ثمن على المجاهدين ان يدفعوه، حتى يعيدوا اقوياء العالم الأشرار الى رشدهم، ولكن ما نعرفه ايضا ان الله (الطبيعة) لا تبخل بمثل هؤلاء المجاهدين الذين بإمكانهم تصحيح مسار العالم. ولنفكر الآن بما حدث في الحربين العالميتين نتيجة شر العالم المتفاقم ونسأل ونقول: ترى الم تكن هاتين الحربين درسا كافيا للأشرار، وقصاصا لهم ايضا؟ اما ما يحدث اليوم من عدوان على ضعفاء العالم، فلا اقول لن يمر دون قصاص، ولكني اقول: لقد تحقق قصاص الله للعالم، وبأسرع ما كنا نتصور، عندما حط الله المتجبرين عن الكراسي (نشيد مريم)، وأصاب العالم بكارثة اقتصادية مدمرة. وهنا اود ان اذكر بأني في لاهوتي العلمي لا اتكلم عن الكوارث الطبيعية، ولكني اتكلم فقط عن الكوارث التي يصنعها اشرار العالم، مثلما يحصل في ايامنا في الشرق الأوسط كله. وفي الحقيقة قد يحسب البعض ان الطبيعة عنصر سالب لا قيمة لها فيما يحدث من خير او شر، غير ان الحقيقة ليست كذلك. فالطبيعة الجامدة، والطبيعة الحية، بإنسانها والروح الذي يتجلى في هذا الانسان، انما تتحمل درجة معقولة من الشر، في حين انها مدعوة للخير ابدا. لذلك نقول: اذا زاد الشر اكثر من حده المعقول، ينقلب الشر على اصحابه، وأحيانا على العالم اجمع. فيا ويل الانسان من غضب الطبيعة بكل ابعادها المذكورة، وبهذا المعنى المحدد، نقول يا ويله من غضب الله.

بعض التوضيحات: قرائي الأفاضل! التوضيحات التي اقدمها هنا تخص تعبير: من فوق، عندما نقول كل شيء من السوق إلا الضمير والوجدان من فوق. طبعا في الحضارة الثنائية القديمة كان الناس تلقائيا يقسمون العالم الى العالم العلوي والعالم السفلي، اما اليوم فأخذ الناس يرون ان البعد الروحي العلوي موجود في عالمنا، اي في الانسان نفسه، وليس خارجا عنه. مع امكانية فعلية ان نقول بأن الله وضع قانون الطبيعة وقانون الانسان لتكون هكذا. اما هذا الكلام فيعني ان الله لا يتعامل مع الانسان كدمية، لكنه يتعامل معه كإرادة له قدر لا باس به من الحرية. غير ان الانسان ليس فقط ابن حريته، ولكنه ابن وراثته ايضا، وابن تربيته الاجتماعية: تربية عائلته او تربية عشيرته او طائفته او تربية قوميته، وتربية كثير من الأيديولوجيات السائدة حوله وفي العالم. وهكذا يمكننا ان نفهم مصدر خير الانسان ومصدر شره، ونتعامل مع كل انسان، ومع كل مجموعة من البشر، على اساس فهمنا هذا.

هل يجوز ان ننسى؟: بعد ان صارت لنا خبرة تامة بجرائم المحتلين ومن انتدبوهم لقتل العراقيين، ترى هل يجوز ان ننسى ما حصل، وأن نقول: العفو عند المقدرة، وأن نطبع علاقاتنا مع القتلة، بدون قيد او شرط، بعد ان نترك لهم ما سرقوه من ثروات العراق وسيطروا عليه بالقوة وبالتآمر مع العملاء؟ اعتقد ان اي مواطن عراقي سليم الضمير والوجدان لن يقبل بالنسيان، ولكنه سوف يبقى يرفع يده وإصبعه وصوته عاليا، ويقول: انظروا ما صنع بنا هؤلاء القتلة: لقد قتلوا شعبنا، وخربوا حضارتنا وسرقوا ثرواتنا مثل اخس اللصوص، آملين ان لا تستطيع امريكا الباغية ان تكون سابقة عدوانية في العراق، مهما كلف ذلك من آلام مضافة للعراقيين.

في النهاية: وفي النهاية، وبعد ان اشرنا بإصبعنا الى المجرمين جميعهم وبدون استثناء احد، وبدون عذر احد، وبدون كراهية لأحد، نكرر مرة اخيرة عنوان المقال قائلين: كل شيء من السوق إلا الضمير والوجدان من فوق. غير ان المعتدين الذين لا يملكون وجدانا ولا ذمة ولا ضميرا، نذكرهم جميعا بكلمة الامام على بن ابي طالب، رضي الله عنه حين قال: اذا دعتك قدرتك الى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك. وكلمة اخرى تقول: ان الله يمهل ولا يهمل. كما نذكرهم بكلمة اخرى للسيد المسيح الذي قال: ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ مع تذكيرنا بأن الله لا يعمل لنا شيئا إلا من خلال مشاركتنا السخية في دحر المعتدين.
تلكيف- محافظة نينوى – العراق

ليست هناك تعليقات: