08 أبريل 2012

إيران وأميركا: هل حان وقت التسويــة التاريخية؟بقلم إيلي شلهوب


بقلم إيلي شلهوب
مجرد طرح السؤال عن إمكان حدوث تسوية أميركية ـــ إيرانية، قد يثير موجة من الاستياء لدى بعض المغالين من أتباع الجمهورية الإسلامية، ممن ربما يعتبرون أن التفكير بالمنطق التسووي إهانة لأكثر من ثلاثة عقود من الصراع مع «الشيطان الأكبر».
بل حتى بعض المعتدلين منهم ربما يمتلكون بين أيديهم رزمة من القرائن والدلائل على استحالة ولوج مغامرة كهذه، وحججهم في هذا تتنوع بين الخلفية العقائدية وانتفاء الحاجة، خاصة مع انتصارات محور المقاومة. ولعل الدليل الملموس الذي يدعم هذا المنطق، رفض طهران، مرات عديدة خلال الأشهر الماضية، عقد مفاوضات ثنائية مع الأميركيين، برغم إلحاح واشنطن.
غير أن من يفهم جيداً فلسفة الثورة الإسلامية لعله يصل في تحليله إلى الاستنتاج أن إيران لم تكن يوماً أكثر قرباً من هذه الفترة من التسوية التاريخية المنتظرة مع اميركا.
 تحليل يستند إلى نظريات إمامي الثورة، الامام المؤسس الخميني والامام القائد حاليا علي خامنئي، كما يستند إلى منجزات عقود الصراع الماضية، وأخيراً إلى الاصطفاف الجيوستراتيجي الحالي على المستوى العالمي.
بداية، لا بد من التفريق بين رؤية الثورة لأميركا باعتبارها «الشيطان الأكبر» الذي يتزعم الاستكبار ويدعم الظالمين في العالم وفي مقدمتهم إسرائيل، وبين رؤيتها لهذه الأخيرة باعتبارها غدّة سرطانية يجب استئصالها. هذا في المقدمات المفهومية، مع ما يستتبعها من استنتاج بإمكانية إقامة علاقة مع أميركا ولو على قاعدة الخصومة أو العداء (وقد ظهر تيار في تسعينيات القرن الماضي يطالب بعلاقة كهذه مع واشنطن على غرار علاقة موسكو السوفياتية معها)، في مقابل استحالة التواصل مع الدولة العبرية باعتبار مجرد وجودها (شعب غريب يستعمر أرضاً ويستعبد شعباً) نافياً لكل البنية العقائدية التي قامت عليها الثورة في إيران (نصرة المظلوم ضد الظالم وفق المفهوم الكربلائي). وهذا الذي يجعل قواعد الاشتباك الإيرانية مع أميركا تختلف عن قواعد اشتباكها مع إسرائيل. وقد يكون أهم اختلاف هو أنه بات واضحا أن هناك تفاهماً ضمنياً بين أميركا وبين إيران على أن تبقى قواعد الاشتباك بينهما دون مستوى الحرب، وأن خاتمة الصراع بينهما لا بد أن تكون تسوية ترضي الطرفين. في المقابل، فإن استحالة التفاهم ومحورية خيار المواجهة العسكرية أبرز مقومين لقواعد الاشتباك مع إسرائيل بشكلها الحالي، بمعنى تلك الدولة الصهيونية العنصرية.
ولعل في حديث الإمام الخميني لوزير خارجيته علي أكبر ولايتي، اثناء توليه المنصب في ثمانينيات القرن الماضي، خير معبر عن هذا التفريق. وقتها قال الخميني لولايتي، «لا يمكننا أن نبقى على قطيعة مع أميركا إلى ما لا نهاية. لا بد أن يأتي يوم نحل هذه المسألة بما يتوافق مع المصالح العليا الإيرانية ومع ضمان عزّة إيران وعقلانيتها». عناصر ثلاثة عاد خامنئي واعتمدها اسساً لسياسته الخارجية: العزة والحكمة والمصلحة، على قاعدة أنه صحيح أننا نريد أن نكون أعزاء ولكن بحكمة مع الحفاظ على المصالح العليا للدولة. والمغزى من ذلك أن لا عزة قائمة على تهور ولا حكمة بلا عزة ولا مصلحة قائمة على دوافع براغماتية خالية من أي مبادئ.
كلام كرره، للمصادفة، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، يوم أمس عندما قال إن «النمط الذي نتعامل من خلاله مع أميركا ـــ لا نتكلم معها وليس لنا أي علاقة بها ــــ لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل. أميركا هي القوة الأكثر تفوقاً في العالم. بماذا تفترق أوروبا عن أميركا؟ وبماذا تفترق الصين وروسيا؟ من وجهة نظرنا، إذا كنا نتفاوض مع هذه القوى، فلماذا لا نتفاوض مع أميركا؟».
مهما يكن من أمر، المقصود من كل ما تقدم التوضيح أن الصراع مع واشنطن لم يكن يوماً صراعاً وجودياً، ولا صراعاً من أجل الصراع، بل كان دوماً يستهدف، إذا ما أخذنا بالاعتبار الوجه الإسلامي ــ القومي الإيراني، وقف استغلال واشنطن فقراء العالم ومقهوريه، ووقف دعمها لإسرائيل، والسعي الى انتزاع اعتراف أميركي بإيران كقوة إقليمية عظمى.
واللافت في هذا الإطار أن إيران، تاريخياً، وعلى وجه الخصوص منذ انتهاء القرن التاسع عشر، تعودت اللجوء الى دولة كبرى لحمايتها من دولة ثانية عظمى، فاستعانت بالروس في مواجهة البريطانيين، وبالفرنسيين ضد الروس والبريطانيين، وبالأميركيين ضد البريطانيين. وحده الخميني في حينه من مارس نظرية التوازن السلبي التي كان يتبناها التيار الديني، وذلك مذ أسس ما بات يعرف بعلماء الدين المناضلين. سياسة قوامها الصمود في الساحة الدولية استناداً إلى المقومات الداخلية مع الامتناع عن تقديم أي تنازلات لأي من الأطراف الدولية المتنازعة في ما بينها استدراجاً لحمايتها.
لكن ماذا يعني من وجهة نظر إيران الاعتراف بها قوة عظمى إقليمية؟
لعل الترجمة العملية لهذا المفهوم، تعني بالحد الأدنى الاعتراف بالخليج والعراق وأفغانستان مناطق نفوذ إيرانية، والإقرار بحصة إيران في الدائرة الأوسع، اي آسيا الوسطى مروراً بلبنان ومصر والقرن الإفريقي، بالإضافة طبعاً إلى الاعتراف غير القابل لأي التباس بحق الجمهورية الإسلامية بامتلاك معرفة وتقنيات وأدوات انتاج الطاقة النووية السلمية.
وهل ترضى الولايات المتحدة بدفع هذا الثمن؟
حتى اللحظة الجواب يبدو كلا. لكنها لا تمانع تحقيق تسوية، خاصة مع انتصاف الولاية الثانية لجورج بوش الابن. كان الخلاف دوماً على الثمن. ما تعرضه واشنطن أقل مما يمكن لطهران أن تقبل به. وما تريده طهران يتجاوز ما يمكن لواشنطن أن تدفعه. وما كل هذه الصراعات المتنقلة من إيران نفسها إلى أفغانستان فالعراق واليمن والبحرين والمنطقة الشرقية في السعودية وسوريا ولبنان وحتى مصر وغيرها، سوى حروب مرحلية تستهدف تعزيز الأوراق المستخدمة على طاولة التفاوض.
من ناحية أميركا، تبدو الإجراءات التمهيدية للصفقة المنتظرة قد بلغت مداها، وما عاد هناك من مشكلة سوى الحليف الإسرائيلي. حسمت الإدارة الأميركية موقفها من إيران، بحسب تقديراتها الرسمية المعلنة، وانتقلت من مقاربتها على قاعدة أنها مجموعة من رجال الدين المجانين الذين يمكن أن يفجروا العالم في أي لحظة، إلى مقاربتها على أنها دولة عقلانية يقوم سلوكها على حسابات الربح والخسارة. بات التيار المنادي بامكانية تعايش واشنطن مع إيران نووية لا يستهان به في صفوف النخبة الأميركية، ويتقدمهم زبغنيو برزنسكي وهنري كيسنجر. وقد حسم عسكر أميركا قبل مدنييها أن الخيار العسكري ضد إيران ليس ممكنا وكلفته باهظة على الطرفين، لأن أي اشتباك مباشر سيتدحرج إلى حرب إقليمية. باتت سياسة الحوار، التي على أساسها وصل باراك أوباما إلى الحكم، السياسة الوحيدة المعتمدة (عصا وجزرة). ومع أن الخيار العسكري لم يُسحب عن الطاولة بعد، على المستوى النظري على الأقل، فإن هناك إشارات أميركية إلى أن سياسة الحوار هذه ستتعمق في حال التجديد لأوباما.
في المقابل، تبدو الصورة من ناحية إيران مناسبة هي أيضاً. الإمام خامنئي بات اليوم يقود القطار وحده، بلا منازع. ليس هذا فقط، بل نجح في إعادة جميع الركاب (قيادات البلد والثورة الذين اصطفوا جميعاً خلفه) كلاً إلى عربته، تاركاً معه في مقصورة القيادة مساعده المخلص ذائع الصيت قائد فيلق القدس قاسم سليماني. إيران في أوج قوتها وعزتها ومنعتها، بعدما نجحت في ربح معارك العقد الماضي والعامين الاولين من العقد الحالي كلها. يرغب خامنئي، على ما يفيد عارفوه، بتحقيق رغبة سلفه (قول الخميني لولايتي) وانهاء القطيعة مع واشنطن على حياته وذلك لعدة أسباب: أولاً، أنه أكثر من يمتلك المشروعية للقيام بأمر كهذا. ثانياً، أنه لا يريد أن يترك الأمر لبعض المغالين في تفسير المفاهيم الغيبية، على غرار بعض الحجتيين من أمثال الرئيس محمود أحمدي نجاد. ثالثاً، أنه يعتقد أنه بإنهاء القطيعة مع أميركا يكون قد أمّن الثورة من بعده، ذلك أنه يكون قد أزال من أمامها أحد أكبر التحديات. رابعاً، أنه يكون قد قدم نموذجاً لدول العالم الثالث بأنها قادرة على أن تبني نفسها وتنتزع اعترافاً بأنها قوة لا يستهان بها. ورابعاً، بكونه قدم نموذجاً على نجاح نظام ولاية الفقيه في انتزاع أمة من حالة التبعية المطلقة إلى مصاف الدول الكبرى.
الخريطة الجيوسياسية الدولية التي يجري العمل على تركيبها حالياً يبدو أنها تدفع في هذا الاتجاه. خريطة لا شك في أنها تتهدد الولايات المتحدة التي تهم في دخول غيبوبة الانتخابات الرئاسية، التي يُرجح أن تستفيق منها واشنطن لتجد عالماً آخر: تحالف أكثر من نصف سكان الأرض يضم دول البريكس (روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا) وإيران والعراق وسوريا ولبنان وقطاع غزة، كنواة صلبة، مدعوماً بدول عديدة من أميركا اللاتينية (كوبا وفنزويلا والأكوادور وبوليفيا) وأفريقيا (السودان وموريتانيا...) وآسيا.
منطق الأمور يفيد بأن واشنطن لن تسمح بتحالف كهذا أن يستكمل تشكله، وبالتالي تستعيد التجربة المؤلمة للمعسكر الشرقي في مواجهة المعسكر الرأسمالي، ولذلك يرجح أن تفضل التعامل مع عناصره، كل على حدة، على طريقة فرّق تسد. وبالتالي، يفترض أن يحتل الملف الإيراني الأولوية لدى الإدارة المقبلة، باعتباره ومعه تحالفه الإقليمي، يشكل رأس حربة المعسكر الجديد والمحور الساخن فيه. وضع ستكون فيه واشنطن مضطرة إلى الحسم، وعندها لن تجد صعوبة في إقامة التواصل المباشر، في ظل وجود ساحات ثلاث للطرفين فيها خطوط ارتباط ثنائي منذ أكثر من عقد من الزمن، هي العراق وأفغانستان ومجلس العلاقات الأميركية ــ الإيرانية في الولايات المتحدة والذي عمل صهر الرئيس نجاد، اسفنديار رحيم مشائي على تعزيزه، بغض طرف من الحكم في طهران، فضلاً طبعاً عن خطوط التواصل المفتوحة، غير المباشرة، وأهمها القناتان العمانية والسويسرية.
لعلها مقاربة واستنتاجات وتوقعات تحمل بعضاً من الدفع إلى الأمام. وهي ربما تتجاهل معوقات قد يكون تجاوزها مستحيلاً، بل يُحتمل أنها تحوي قصوراً معلوماتياً قاد التحليل إلى المكان غير المناسب، لكنه في النهاية سيناريو فيه الكثير من الواقعية أكثر مما قد يعتقد البعض، وترجمته ستتظهر خلال نحو عامين... والله العالم.

ليست هناك تعليقات: