11 أبريل 2012

حمدى قنديل يكتب: عمر سليمان لن يكتب تاريخ الثورة




١٨/ ٧/ ٢٠١١ المصري اليوم

نعم، مرة أخرى عمر سليمان..
 فى مقال الأسبوع الماضى «عمر سليمان ليس بقرة مقدسة»، كنا قد نقلنا عن العدد الصادر فى ٢٦ مايو الماضى من جريدة «الأخبار» أقواله التى أدلى بها أمام «جهات قضائية» لم تحدد هويتها بالضبط.. ملخص هذه الأقوال التى دارت حول أيام الثورة، أن مبارك كان على علم بتفاصيل قتل الثوار، وأنه كلف القوات المسلحة والمخابرات العامة بمتابعة المظاهرات ووقف المتظاهرين، وأنه - أى سليمان - كان يتلقى التقارير كل ساعة من حبيب العادلى وينقلها فوراً إلى مبارك، وأن التقارير كانت تتضمن عمليات إطلاق الرصاص الحى والمطاطى على المتظاهرين وأعداد من سقط من الجرحى والشهداء وحتى الأطفال من الشهداء، وكانت تتضمن التحركات العنيفة للداخلية فى التصدى للمتظاهرين ودهسهم بالسيارات وتفريقهم بالقوة، وأن مبارك لم يعترض على هذه الإجراءات، الأمر الذى يؤكد موافقته الكاملة عليها ومشاركته فيها.

سألنا فى المقال: لماذا صمت الإعلام المصرى صمتاً كاملاً على هذه الأقوال الخطيرة؟ وسألنا: هل اقتصرت على ما نشر فقط أم تعدّت ذلك إلى أمور أخرى؟ وسألنا: إذا ما كان عمر سليمان قد مثل أمام الجهة القضائية شاهداً أم متهماً؟ وما هى هذه الجهة التى مثل أمامها؟ وأين تم الإدلاء بالأقوال؟ هل هى موثقة فى محضر وما هو رقم وتاريخ المحضر؟ وهل تمت بحضور محامين؟ وهل استكملت بشهادة شهود؟ وماذا تم بشأن هذه الأقوال؟ وإلى من أحيلت وبأى غرض؟.. كل هذه الأسئلة لم يرد عليها أحد، ولا علّق أحد على ما تعرضنا له بشأن دور عمر سليمان كمدير للمخابرات العامة على مدى ١٨ سنة، سواء فى السياسة الداخلية أو الخارجية، خاصة دوره المحورى فى العلاقات مع أمريكا، وفى العلاقات مع إسرائيل، بما فى ذلك ترتيب صفقة الغاز الشائنة، ولا بشأن طلبنا إلى النائب العام أن يمثل عمر سليمان أمام العدالة.

يوم السبت أمس الأول، أضافت جريدة «الحياة» اللندنية إلى سجل عمر سليمان مفاجأة جديدة، فهو لم يكن فقط الرجل المفضل فى إسرائيل لرئاسة مصر على نحو ما صرح به وزير شؤون الاستخبارات الإسرائيلية دان مريدور - وفقاً لما نقلته الإذاعة العبرية - ولا هو اكتفى بأن يكون قناة الاتصال الأساسية بين الإدارة الأمريكية ومبارك فى كل الشؤون - أمنية وغير أمنية - طبقاً لما ورد فى كتاب الصحفى البريطانى ستيفن جراى «الطائرة الشبح»، وأكده جراى بصوته فى مكالمة لبرنامج «آخر كلام» فى «أون تى فى» الأسبوع الماضى، وإنما كان أيضاً رجل ليبيا فى مصر.. هذا ما ورد فى حديث وزير الخارجية الليبى السابق عبدالرحمن شلقم الذى نشرته «الحياة».. عمر سليمان، الذى كان من المفترض أن يكون كمدير للمخابرات العامة رجل مصر فى ليبيا هو فى الحقيقة رجل ليبيا فى مصر، الذى يؤدى لها خدمات مثل نقل وزير الخارجية الليبى الأسبق المعارض منصور الكخيا من مصر إلى ليبيا، حيث يلقى مصيره هناك على نحو ما كشف شلقم.
 سليمان، صندوق مبارك الأسود، إذن حافل بالأسرار التى يصعب حل رموزها دون الاستماع إلى أقواله مفصلة حول حكم مبارك الفاسد العميل المستبد.. لكننا نستخلص مما نشرته جريدة «الأخبار» أن الجهة القضائية التى استمعت له اكتفت بسؤاله عن مجريات وقائع قتل المتظاهرين أيام الثورة.. وربما كان هذا هو الغرض من التحقيق، إلّا أن «المصرى اليوم» الصادرة يوم الجمعة الماضى حملت لنا مفاجأة أخرى أضافت بها مزيداً من علامات التعجب حول الرجل الغامض عندما نشرت ما سمته «أقوال عمر سليمان أمام النيابة»، المفاجأة كانت أن هذه الأقوال - التى نشرت مفصلة بنصها الكامل - جاءت مناقضة تماماً لما كانت قد نشرته «الأخبار»، ففى حين أن أقوال سليمان فى «الأخبار» حمّلت مبارك المسؤولية عن قتل المتظاهرين، إذا به فى «المصرى اليوم» يدافع، ليس فقط عن الرئيس المخلوع، وإنما عن وزير داخليته أيضاً، قائلاً إنهما «لم يصدرا أوامر بإطلاق الرصاص» بل رجح أن تكون «عناصر إجرامية» هى التى قامت بقتل المتظاهرين.

أمام هذا التناقض ليس هناك إلا احتمالان اثنان يمكن لأحدهما أن يقدم تفسيراً لأقوال نائب الرئيس السابق المتعارضة.. إما أن يكون عمر سليمان قد أدلى بأقواله مرتين، وأنه لسبب ما عاد عن أقواله الأولى فى المرة الثانية، وإما أن تكون إحدى الصحيفتين، «الأخبار» أو «المصرى اليوم»، قد جانبتها الدقة فى نقل هذه الأقوال.. فى الاحتمال الأول المتعلق بعدد المرات التى أدلى فيها عمر سليمان بأقواله، ليس لدينا مصدر مؤكد سوى النيابة العامة، بافتراض أنها الجهة الوحيدة التى استجوبته، وهنا لا نجد تصريحاً يعتد به سوى ذلك الذى صرح به المتحدث الرسمى باسم النيابة العامة،

وأفاد فيه بأنه فى إطار التحقيقات التى تجرى فى الوقائع المنسوبة لمبارك، تم الاستماع إلى عمر سليمان فى تحقيق أجرى يوم ١٨ أبريل الماضى، إلا أن المتحدث أشار إلى أنه «حرصاً على التحقيقات وعدم اكتمالها فسترجئ النيابة العامة إعلان تفاصيلها حتى الانتهاء منها».. ولم تفدنا النيابة فيما بعد بما إذا كانت التحقيقات قد استكملت أم لا، وهكذا فإن النيابة لم تغلق الباب أمام استمرار التحقيقات مع الرجل الغامض.. لكن الأرجح فى كل الأحوال أنه حتى لو كان عمر سليمان قد مثل أمام النيابة أكثر من مرة، فليس من المنطقى أن رجلاً بمثل هذه المكانة يدلى بأقوال فى تحقيق ويكذّبها فى آخر إلا لسبب يستعصى على الفهم.
 يبقى لدينا إذن الاحتمال الثانى المتعلق بمدى أمانة الصحيفتين فى نقل الأنباء، وهو احتمال يقودنا بالضرورة إلى وضع إحداهما موضع الشك.. وهنا فرغم أن نشر المقال هذا فى «المصرى اليوم» يفتح باب الظنون أمام الانحياز لها، فإن «المصرى اليوم» نشرت نصاً للتحقيق «س» و«ج» يتعذر الطعن فى صحته، وبالتالى فلا مناص من أن يتجه اللوم إلى «الأخبار» التى كانت قد اقتصرت على نشر ملخص لأقوال عمر سليمان.. إلا أن اللوم فى ظنى يطال أيضاً النيابة العامة التى لم تبادر إلى تصحيح الخبر، خاصة أنه نشر باللون الأحمر كعنوان رئيسى فى صدر الصحيفة، وربما يقع أساساً على العقلية السائدة فى المؤسسة الرسمية المصرية المجبولة على حجب الأخبار عن وسائل الإعلام.
 نعود إلى أقوال عمر سليمان المفصلة فى «المصرى اليوم» التى قلنا إنها لا تزيدنا إلا حيرة وغموضاً.. ولعل السبب الأول فى ذلك، إضافة إلى ميل سليمان المتوقع للكتمان، هو أن المحقق ـ الذى لا نعرف اسمه ـ كان رفيقاً إلى حد مثير للدهشة بمدير المخابرات العامة، حتى إن المرء يظن أن التحقيق المنشور دردشة فى مقهى أو أنه جلسة استماع لا وقائع تحقيق.. يتضح مدى هذا الرفق، خاصة إذا اطلعنا على نص التحقيق الذى أجرى مع مبارك فى القضايا نفسها، والذى نشرته «المصرى اليوم» منذ نحو شهر، وقارنا بين الأسئلة التى وجهتها النيابة فى كل من التحقيقين.. فبصرف النظر عن أن مبارك يمثل أمام المحققين بصفته متهماً، وأن سليمان لم يكن فى الموقف نفسه، إلا أن الأسئلة لمبارك كانت متلاحقة إلى حد أن صحفاً أخرى وصفتها حينها بأنها كانت سريعة، وحيناً آخر بأنها كانت ساخنة، فى حين أنه فى التحقيق مع سليمان، نجد المحقق يحجم عن الاستطراد فى الأسئلة، ونجد سليمان يحجم عن الاستطراد فى الإجابة، كأنما اتفق الاثنان ضمناً على أن التحقيق مجرد سد خانة حتى ولو كان قد تعرض لأمور على قدر فائق من الأهمية.
 يتحدث عمر سليمان عن نشاط السفارة الأمريكية لتدريب الشباب على الاحتجاج والتظاهر، فلا يُسأل عن تفاصيل هذا النشاط ولا من هم هؤلاء الشباب.. ويتحدث عن أن جهاز المخابرات رصد اتصالات بين عناصر من الإخوان وعناصر من حركة حماس فى غزة، فلا يُسأل عما هى بالضبط تلك العناصر ولا عن توقيتات الاتصالات أو مضمونها.. ويتحدث عن «وصول مجموعات إلى مصر يوم ٢٨ يناير وشوهدت بعد صلاة الجمعة فى ميدان التحرير»، فلا يسأل عن جنسية هذه المجموعات، وما أعدادها، ومتى وصلت، وماذا كان غرضها، وهل تم القبض على أى منها.. فى هذه الأمور البالغة الخطورة بالنسبة إلى الأمن القومى المصرى، والتى تسىء إلى الثورة إساءة بالغة وربما مدبرة، يترك المحقق عمر سليمان ليلقى تهماً كهذه على عواهنها دون أن يطلب منه تقديم الدليل أو حتى الإدلاء بتفاصيل.
 ثم يتعرض عمر سليمان لـ«موقعة الجمل»، فلا يقول سوى إنه علم «بحصول الاشتباكات فى ميدان التحرير بين المتظاهرين وبين عناصر أخرى لا أعرف هوياتهم، والتى سميت بموقعة الجمل»، ولا يسأله المحقق كيف ـ وهو نائب الرئيس الذى كان مديراً للمخابرات العامة قبل أيام لا يعرف هوية هذه العناصر؟.. وكيف يتركه المحقق يحكى روايته عما جرى فى قصور السلطة أيام الثورة ويكتفى بما قال دون تعقيب.. يتحدث عمر سليمان عن الاجتماع الذى تم فى مركز عمليات القوات المسلحة بحضور مبارك دون أن يطلب منه الإفصاح عما تم فى الاجتماع.. وعن لقاء بينه وبين حبيب العادلى فى المركز فى اليوم نفسه دون أن يسأل عن مكان العادلى فى بقية الأيام.. وعن أنه ـ أى سليمان ـ أوصى الرئيس بالاستجابة لبعض مطالب الثوار دون أن يسأل: وما الذى أوصى به المسؤولون الآخرون؟..
وعن أنه كان هناك «إصرار من جميع الطوائف المتظاهرة بأعداد ضخمة جداً على ضرورة عمل تفويض باختصاصات رئيس الجمهورية إليه» دون أن يثير هذا ولو حب استطلاع لدى المحقق فيطلب منه شواهد على هذا «الإصرار من جميع الطوائف».. ويقول سليمان إن طلب هذا التفويض قُدم للرئيس فى ٣ فبراير إلا أنه لم يستجب له إلا فى يوم ١٠ فبراير، ولا سؤال عما أخّر الرئيس فى الاستجابة للطلب.. ويضيف أن الرئيس «اختار» أن يتخلى عن منصبه وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد يوم ١١ فبراير بناء على طلب منه ـ أى من سليمان ـ فلا يُسأل إن كان وحده الذى طالب بذلك، أو ماذا كان موقف المجلس الأعلى ذاته.. ويتحدث عن اشتباك الشرطة مع المتظاهرين، فلا نسمع من المحقق سؤالاً عن القناصة، أو سؤالاً عن السيارة التى دهست المتظاهرين وعن ملكيتها للسفارة الأمريكية أو لغيرها.
هل هذا هو التحقيق الكامل فعلاً، أم أن جانباً منه قد حجب عن النشر لأسباب متعلقة بالأمن القومى أو بغيرها، أى أن هناك استيفاء له يقوم به محقق آخر؟ ثم.. كيف تجرى التحقيقات فى قضايا أخرى لم يطلع الرأى العام على محاضرها؟.. وهل تمت تلك التحقيقات بأسلوب سد الخانة نفسه؟.. وهل كان ذلك من أسباب أحكام البراءة التى صدرت فى بعض القضايا؟.. والأهم من ذلك كله، هل سيترك تاريخ الثورة الناصع كى يكتبه عمر سليمان هو والنيابة العامة على نحو ما جرى؟.. وكيف لنا، أخيراً، أن نتدارك تشويه هذا التاريخ؟

ليست هناك تعليقات: