24 يوليو 2010

أنا.. أنا.. ولست أنا - حداثة منتهى الحداثة


بقلم سيد أمين

1

كنت أتحسس وجهي.
وكانت الطرق متشعبة ومظلمة.
وقفت حائراً عند المنعطف.
فإذا به فتي قوي يركض نحوي وحينما اقترب تفرست ملامحه وندبات وجهه.
كان شيخاً طاعنا في القدم.. خفت منه فلم أنبس ببنت شفة.
قال بصوت عفي ووقار شيخ:
سأوصيك خيراً لوجهتك.. لو أهملتها تهت.
الطرق جميعها ذات اتجاه واحد.. ولكن السائرين لا يصلون جميعا إليها.
كلما تخلصت من حواسك تقترب نحوها.. أما لو تلاشيت فستقف عليها.. حقيقتك في هجائك والحق مفتاح بابك .. لو جعت شبعت ولو صبرت تلاشيت.. ولو تلاشيت وصلت.
استجمعت شجاعتي.. حاولت أن أهدئ من روعي وهممت لكي اسأله فزمجر وتلاشي.

2

حينما وصلت الملتقي.. كانت الغربة قد أضنتني.. فاخترت حقيقتي.. تحسست وجهي.. عدت كما أنا.. شيء يدفعني نحوه.. لابد أنه هناك لأنني أنا ذاهب إليه.
كنت أنا مشتاقا لمنزله.. وقدمي مترددة.
فكرت فيما لو لم أقابله أو يقابلني.
عدت إليَ أكثر فأكثر.. وجدتني أشجع من أي وقت مضي.. إلا وقتا لم اتذكره حينما أنا كنت أنا.
طرقت بابه حتي احمرت يدي.
أتراه موجوداً حقاً؟
أم أنه يرفضني كما أنا؟
لابد أنني لست أنا
خطوت إلي الخلف.. كانت الطريق حولي مظلمة.. إلا ظلال نور خافت علي البعد في طريقها سرت.. فأخذت تتوهج حتي غمرتني.. وقتها تأكدت من عودتي أنا.
قلت لي: إنه يعرفني قبلي لأنه لم يجهلني أبداً.. فلو جهلني ما كان
هو.. ولم يرفضني أبداً فهو من دعاني.. ولم أبرح قط منزله.. فليس لي غيره منزل سواء أنا كنت أنا أو لست أنا.. لكنه دائما يريدني أنا أنا.

3


تلفت أمامي.. فجأة .. وجدته ماثلاً .. تأملت هيئته.. واسترجعت زمن العنفوان.. ضحكت من فرط البلاهة.. فكيف لم يكن مرة صديقي رغم أنه كان دائماً برفقتي؟
عزمت أنا علي أن أسأله أسئلة كثيرة .. لكنه قال بثقة أخافتني:
ما سأقوله ما قلته قط لمضيف .. أنا لم أغب لأنني حاضر كما لم يحضر أحد من قبل .. ضيف لحوح أطرق كل الأبواب.
تعرفني قبل معرفتي.. وأعرفك.. غريمي مهزوم وصديقي مكلوم.. معرفتي شر لمن أوصد بابه.. خير لمن صادقني واسكنني معه.
قلت له: من فرط تأخرك ظننت ألا قدوم لك.. ومن رهبتي إياك عمدت أن أنساك.
قال مؤكداً: ما تأخرت فأنا ألازمك لزوم نفسك.. وما أتيت لأنني فيك.
الكثيرون احتفوا بي فراعوني.. والكثيرون جحدوني فراعوني.
منهم من جاء معي وبجسده سار.. فأحببته.
ومنهم من جاء معي وبروحه سار.. فكرهته.
وللتو.. أنت معي ذاهب.
قلت: هل من تأجيل؟
قال: قلت إنني أمهلتك كثيراً.. واللحظة لا تأخير.. فالموعد محدد ودقيق.
فهمت مغزي كلامه.. فزعت.. صرخت فما سمعت صوتي:
إلي أين.. فأنا عن هناك غريب؟
قال: إلي حيث يذهب كل ضيف ومضيف.. إلي حقيقة كل حقيقة وأم كل الحقائق.
استسلمت.. فليس بمقدوري سوي الرعب.. كلي ينتزع من كلي.. أردت الغوث فما مغيث.. تراءي لي الماضي في لمح.. قدرة أفنيت في عجز.. ونماء أفني في جدب.. وفرج أسرف في يسر.. وللعسر.
في الهلاك أسير أسير.. كنت صغيراً صرت كبيراً.. وكنت كبيراً صرت صغيراً.
قلت لضيفي دون كلام: أكرمت ضيوفي إلا أنت.. أضحكوني فبكيت.. وأبكيتني فضحكت.
سألته: هل الطريق مستقيم؟
فقال: ستعرفه بنفسك.. والسيد جواد.
قلت: أرحني فأنا ضال.. كل حبيب خلا.. ومالي من حبيب.. وشردت يوما في الفلا.. واليوم قد ولي المغيب.. ولولا جهل بك لعرفتك.. ولوعرفتك لأحببتك.. ولو أحببتك لأكرمتك.
تحشرجت واشتد بي الضيق فقلت له: أرحني فأنا ضال
فقال: ما ضاقت إلا انفرجت.
تفاءلت وبدا لي ضيقي فرجا.. وأخذت أسبح معه في الأكوان خلف الحدود.
تأملت نفسي فلم أجدها .. فسألته: هل أنا موجود بين الحدود؟
قال: لكل حدود حدود.. وللا حدود حدود.. ولا حدود للا حدود له وكل هباء موجود.. وكل موجود هباء.. أنا درج الارتقاء.
قلت له: أخبرني يا صادق.. هل أنا موجود؟! وهل للحدود وجود؟
قال: اسألني عن الوجود؟! فهو موجود.. ولا حدود بلا وجود.
وعن وجودك؟ فمن اللا وجود خلق الوجود.. ثم الاختبار المؤكد.. ثم الوجود في منتهي الوجود.. فالوجود عكس الفناء.. ولا يتفقان.
فالموجود لا يفني .. لأنه موجود .. لكنك الأنت مت .. والأنت أنت.. موجود.
قلت : الأنا أنا موجود.. فماذا عني أنا؟
قال: قلت لك كل موجود موجود.. انت سواء أو الأنت أنت.
والسيد جامع

4

طار بي صديقي .. وكنت اري الكون حولي فسيحا كما لم اكن قط اتوقع .. وكان الجو منعشا ذكيا رطبا جافا .. وكنت لا اشعر بالجوع او بالعطش لانني انا فقط الموجود ..وكنت سعيدا.
قادني فضولي فسألت : - صديقي الصدوق هل كل ضيوفك ومضيفيك يأتون اليك هنا؟
قال :- لكل مضيف وضيف حق الاختيار.. في الاختبار.
قلت :- صديقي الصدوق في الاختبار..شقيت بالسؤال .. ما انا هنيت؟
قال :- منكم من أعسر فأيسر ومنكم من ايسر فأعسر ومنكم من اعسر فأعسر ومنكم من ايسر فأيسر وانك اذا بليت فأمسكت كرمت.
وويل لمن امسك فما امسك .. ولكن من امسك فأمسك سينال ما امسك بلا انقطاع.
قلت امسكت فتًعست في الاختبار.
قال ما امساك المتاع الا يسر دائم.
طار بي صديقي الي لا حدود الجنان.
واخبرني ان كل موجود متاح .. لأن كل حرمان مصيره الي وفر .. وكل وفر الي زوال .. ولا زوال الا لمن لم يعد.. وقال لي :- مبلغ العناء الصبر.. ومبلغ الصبر الصبر علي الحرمان .. ومبلغ الحرمان حرمان من عوز.
وفي لمح كان بي في ملتقي الفرقاء .. فرحت فرحا لم تسعه الحروف.. وصرت كشعاع نور اجري وكأن الأنا انا اكتملت.
فقال لي الصادق :- انهل مما حرمت وجاءت نحوي.
فمن فرط بهائها ما ابصرت بينما اريجها الذي اسطلني ما جعلني ادركت .. رفعت صوتي :- ماذا يا صدوق ؟من؟
قال :- انك في معية فتاة الهوي والعشق لم يفصل بينكما الا الحدود.
قلت :- اني اتعذب من فرط شبع الهوي ؟
قال :- كل شئ بقدر حتي منتهاك ستنال.
ووجدتني قادرا علي النظر.. فاذا بها بهية كما لم اتصور .. راقدة في مخملها الذي لم أتصور ..علي الهيئة التي لم اتصور.. ووجدتني اذوب فيها كما لم اتصور حتي انني ظننت ما انتهاء.
حدثتني فأمتعت كما لم اسمع من قبل .. وقلت هل انت من اجلي؟
قالت :- سخرني السيد لك.
قلت :- انت يا له من جزاء.
قالت :- وكل ما ومن تشتاق .
قلت :- وهل شوق بعدك الا الي لقاه؟
قالت :- اشواقكم كثرت والعطّاء سرمدي.
قلت :- العطّاء لا يمل واشواقنا تبلي.
قالت :- وهل لك ان تأخذ ما حرمت؟
قلت:- ما ان قابلتك حتي انطوت كل النساء .. ولأجل دعوتك ما بحثت.
اومأت فوجدتني امام من حرمت.

5


كنت اظنني سأنهار.. كنت اظنني سأتوهج .. سأنتشي .. كنت لا أتخيل أبدا ان نلتقي .. هكذا حال الاختبار.
ورأيتها وحلة ازينت بها .. وخلفها يطير شعرها الحرير الاسود.. البهجة هذه ما رأيتها قط من قبل .. كأنها ليست هي بكل ما هي.. حدثتني .. فأستمعت واستمتعت وغرقت بحواسي الحقيقية فيها.
قلت:- لماذا كنت انت؟ولماذا كنت انا ؟
قالت :-لأنني ما كنت انا وانت ما كنت انت.
قلت :- ما تخيلت البعيد قريبا!!
وحينما وثقت رددت اليًّ .. ولولا الردة ما كنت هنا .. شقيت منك هناك .. في دار البعد بالبعد .. وسعدت بك هنا في دار القرب بالقرب.
ولو لم أرتد ما كانت منيت .. كنت سأشقي شقائي اثنين .. كنت سأعاني بعدي عني .. وعنك .. الا ان ما اعجزني بعدي عنه لولا اني ادركت .. فسلّمت.. فسلمت.
قالت وكأنها تبرأ من ذنب :- لولا الحرمان ما وصلت.
قلت وكأني اؤيدها :- في القرب اليك طاعة للنفس.. وفي البعد طاعة السيد.
قالت :- وطاعة السيد وثقي؟؟
قلت:- طاعة السيد وثقي .. وخير الطاعة صبر علي جمر.. ولولا انني رددت كما انا ما اطعت .. والسيد ما اغناه.
قالت :- أما أنا ..أما أنا..
أرادت ان تبكي.. لولا ان البكاء هنا مستحيل .. فقالت مستطردة :- حكمت القلب فخدعت .. وحكمت العقل فضللت ..وحكمت العزة فذللت.
قلت مندهشا :- ما ذل من وصل.
قالت :- وصلت عندما حكمت السيد.. ورردت اليَّ.
وأضافت :- قبل الردة عندك كنت انا .. وقبل الردة عندي كان غيرك .. وأنا وأنت خدعنا..لأننا لسنا كلينا.
قلت مغازلا :- أنت في القرب .. أنت في البعد ..أنت وصولي ..
ان كنا نحن أو كنا.
كنت سأسعد .. والسعادة طريق لسعادتي أنا.
فكم من سعد زائف أوصل الي سعد دائم.
لكن بشقائي الزائف صبرت .. فوصلت للسعد الدائم.
والصبر .. لو تدري عذاب .. والردة لو تدري صبر .. وطريق محفوف بالشك .. لولا اليقين.
أكملت متفاضلا : - لكن فضولي يدفعني عما أنا كان.
قالت : أنت كان الفتي الضال .. وأنا كنت الفتاة الضالة .. هناك.
أنت كنت رحيقا للشوق مسكوبا في الأرض النتنة.
وتساءلت :- أما أنا ماذا كنت؟
قلت : - أنا أنت الجسد وأنا أنت الروح.
أنت الخلجة والسهوة والفكرة والذكري .. أنت الغضبة والفرحة.. أنت الوحدة والجمع .. أنت الرعش الساري والدم.. لولا ان رددت الي فوصلت اليك.
قالت وقد سبلت عينيها اشفاقا : - عوضك السيد عني بي .. ولولا اللو .. لرجوت العودة الي الاختبار .. ولك.. ولكن المقادير مقدرة ولولاها ما التقينا الأن.
تسألت مقاطعا :- أصدق تقولين ؟
قالت :- ما أقول ولا تقول الا صدقا .. ولا يوجد الا الصدق في دار الصدق.
قلت خجلا :- معذرة فما لي عهد بكم..وبي أنا.
قالت :- وماذا بعدما ضاع فيَّ الأمل.
قلت متسائلا :- لو تنتشر روحك مرة ماذا تصبر ؟ لو تشربها الأرض الخصبة والمقادير؟ لو تنهمر بأقصي الكون .. تروي شجرا.. تبقي غديرا؟ ماذا تصير؟ لو تنشطر للنصفين .. نسمة صيف .. أو أعاصير؟
نصف منها يزرع عيشا .. نصف منها حصد هدير؟ ماذا تصير؟
قالت :- هباء!!
قلت :- أنا كنت ولم أكن .. أبدا ما هنيت ؟
قالت تمنيني :- السيد وهبني لك .. واليوم لا حدود .. ولا انتماء ولا شئ سوي اليقين.
قلت متعجبا :- قادني صبر الزيف لنيل اليقين.!!
وأضفت مستدركا :- ما زلت في شوق للاحدود.. فما زلت حديث العهد.
قالت :- أنا معك كما أنا.

6


ناديت للصدوق فجاء وقد تغيرت هيئته بحيث لم أدركها .. طلبت منه أن يلازمنا.
فقال :- لكل منكما حدود .. في اللاحدود.. وأنتما متشابها الحدود .. مهما طرتما في اللاحدود .. ففي الحدود .. لأن كل متاح لكما متاح .. وكل ما ليس متاحا ليس متاحا لكما .. وفضولكما يقودكما للمعرفة.
وطرت أنا وهي .. نستكشف جمال الوجود وأتساءل عما لم اعرفه.
كانت كل المعلومات مجهولة .. وكل المعلومات معلومة .. وكانت حواسي تعمل كحواسي .. التي ما تخيلتها حواسي.
تمر اللحظات وكلها اضافات.. احساسي ينير لي عيني .. وعيني تطنب لي سمعي .. وسمعي يشبع لي امعائي.
الوقت لايشبع ولا يمل .. لا يقصر ولا يطول.. تشره في التملي ولا تشبع.
تنال أحاسيس الفيض بعد الجدب في كل وقت .. وما كان أبدا هنا
جدب وأحاسيس الارتواء عن عطش .. وما كان هنا عطش .. كل حسياتي مكتملة ولكنها لا تزال في عوز لكل اكتمال.
طرنا الشوق ينثرنا ويجملنا ويجمعنا.. وجدنا السابقين فسألناهم لكي نستزيد.. تحدثوا بأصوات وكأنها الهزج .. وما قالوا سوي السيد. جلسنا علي الموضون .. تقابلنا.. أئتمر ولدان بالطواف علينا.. وشربنا .. جلسنا كما لم نجلس من قبل .. وشربنا كألذ ما طرق علي خيال .. بل يزيد .. وقدم للسقاية نادل في أروع شكل .. حتي شبت عيوننا بشبابه.
تراقصت حولنا قطع من البدر .. أجمل من أي جمال تخيلناه.. الأشياء حولنا علي الأطلاق .. حتي كدنا لا نعرف سواه حسنا .. قلت لمن كدت اشتاق :- أليس علي للاطلاق طلاق؟
قالت :- للأطلاق اطلاقا طبعا.
قلت : - أليست هناك حدود للاطلاق حتي لو حدا قبل السيد؟
قالت :- كل حد قبل السيد ..لأن اطلاقه غير كل اطلاق .. وكل اطلاق غير اطلاقه يسير في اطلاق غير اطلاقه .. وفي مطلقات غير القصر لو قورنت بأطلاقه.
والفرق بين الأطلاقين .. كالفرق بين أنا.. وأنا أنا.
قلت خجلا :- اللفظ يخدعني .. لكن اليقين يملكني.
أخذنا نسير بلا سير .. وكان يومنا كأبرك أيامنا .. فأذا لكل الساكنين
مجتمعين .. جليس أرضهم بالمسك والكافور .. كجليس لؤلؤهم وياقوتهم ..أنواتهم خاشعة في حياة الخشوع.
تهطلهم سحابة بالطيب في معناه .. وفيما لا نعرف معناه ..زغردت القلوب وذهلت العقول .. وغمرهم الجلال حينما برز لهم عرش النور .. وبرز السيد فيما تعجز الألسنة عن وصفه ويعجز الخيال عن ادراكه .. ويعجز الادراك عن احاطة ما سمح به كي يدرك..وتوقف كاتب السطور عن الكلام فيما لا يمكن ان يخطه قلم ولا يكفيه مداد ولا يفهمه عقل.
ولما انتهوا ذهبنا مع المجتمعين حيث سوق الحقيقة وما زالت ادراكاتنا القادرة عاجزة.. ومشاعرنا تفيض حولنا .. والسعادة تشكل اجسادنا ..والأنوات ترفرف بهجة.
وسوقنا سوق لا للبيع ولا للشراء .. بل أمنيات تتحقق.. وحاجات تقضي .. وما هي بحاجات.. فالحاجة عوز.. والشبع غير العوز .. ولا عوز بعد الشبع .. وما اشبع من بروز عرش السيد للعيون.
ما نظرنا الي حلة احد الا ولبسنا افضل منها , وما اخذنا شيئا الا
اعطيناه .. ولا يوجد في الحقيقة شئ قديم ..فالزمن يمضي وكأنه لا يمضي.. او كأنه لا يمضي.. كما لو كان يمضي.. وذلك لان مضي الزمن له منتهي وهنا لا يوجد منتهي .. سوي الحقيقة وحقيقة الحقائق.

يتبع

نشر في عدة مواقع ومنتديات

ليست هناك تعليقات: